كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَذِكْرُ الْأَبْنَاءِ وَالْأَرْوَاحِ هُنَا دُونَ آيَةِ النَّهْيِ عَنِ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَلَّى فِي الْحَرْبِ مَنْ فَوْقَهُ كَالْأَبِ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ كَالْأَخِ دُونَ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ كَابْنِهِ وَزَوْجِهِ، وَلَكِنَّهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي الْحُبِّ، وَإِنَّنَا نُبَيِّنُ مَرَاتِبَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الْحُبِّ، وَنُقَفِّي عَلَيْهَا بِمَعْنَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكَوْنِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِمَا شَيْئَانِ مِنْهَا، وَلَا يَعْلُو حُبَّهُمَا عِنْدَهُ حُبُّ شَيْءٍ سِوَاهُمَا: حُبُّ الْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ لَهُ مَنَاشِئُ مِنْ غَرَائِزِ النَّفْسِ وَشُعُورِهَا وَعَوَاطِفِهَا وَعَوَارِفِهَا وَمَعَارِفِهَا وَطِبَاعِهَا، وَمِنْ عُرْفِ الْأَقْوَامِ وَآدَابِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَشَرَائِعِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَالْوَلَدُ بِضْعَةٌ مِنْ أَبِيهِ يَرِثُ بَعْضَ صِفَاتِهِ وَطِبَاعِهِ وَشَمَائِلِهِ مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَشْعُرُ بِهِ، وَيُنَمَّى فِي نَفْسِهِ بِنَمَاءِ تَمْيِيزِهِ وَعَقْلِهِ، إِحْسَانُ وَالِدَيْهِ إِلَيْهِ، وَاقْتِرَانُ صُورَتِهِمَا فِي خَيَالِهِ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ لَهُ، وَيَتْلُو هَذَا شُعُورُهُ بِمَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَنَانِ وَالْعَطْفِ وَالْحَدَبِ عَلَيْهِ وَالْحُبِّ الْخَالِصِ لَهُ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ رِيَاءٌ وَلَا تُهَمَةٌ، وَلِلْوَالِدَةِ الْقَدْحُ الْمُعَلَّى فِي هَذَيْنِ- وَيَفُوقُهَا الْوَالِدُ بِمَا يَحْدُثُ لِلْوَلَدِ بَعْدَ هَذَا مِنْ شُعُورِ الْإِعْجَابِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْقُدْرَةِ وَهُوَ مِنَ الْغَرَائِزِ، وَالطِّفْلُ يَشْعُرُ بِأَنَّ أَبَاهُ أَعْظَمُ النَّاسِ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. وَهَذَا الشُّعُورُ إِمَّا أَنْ يُنَمَّى وَيَزْدَادَ فِي الْكِبَرِ إِذَا كَانَ الْوَالِدُ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِمَّا أَنْ يَضْعُفَ، وَلَكِنَّهُ قَلَّمَا يَزُولُ عَيْنًا وَأَثَرًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَتَفَاخَرُونَ بِآبَائِهِمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَفِي مَعَاهِدِ الْحَجِّ حَتَّى قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [2: 200] يَتْلُو ذَلِكَ شُعُورُهُ عِزَّةَ الْحِمَايَةِ وَالصِّيَانَةِ لَهُ مِنْ وَالِدِهِ وَالذَّوْدَ عَنْهُ وَالِانْتِقَامَ لَهُ إِذَا ضِيمَ، وَفَوْقَ هَذَا شُعُورُ الشَّرَفِ، فَهُوَ يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ، وَيُحْقَرُ بِضِعَتِهِ وَخِسَّتِهِ. فَإِنْ أُهِينَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ تَرْجُفُ أَعْصَابُهُ وَيَتَبَيَّغُ دَمُهُ، وَلَا تَكَادُ تَهْدَأُ ثَائِرَتُهُ إِلَّا بِالِانْتِقَامِ لَهُ.
تُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الشُّعُورِ وَالْغَرَائِزِ مَلَكَاتٌ تَطْبَعُهَا الْحُقُوقُ الْعُرْفِيَّةُ وَالْآدَابُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَالشَّرَائِعُ الدِّينِيَّةُ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ قَرَنَ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [17: 23] إِلَخْ. وَقَرَنَ شُكْرَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [31: 14] ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِمُعَامَلَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، مَعَ نَهْيِهِ عَنْ طَاعَتِهِمَا إِذَا دَعَوَاهُ إِلَى الشِّرْكِ فَقَالَ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [31: 15].
فَهَذِهِ مَجَامِعُ نَوَازِعِ حُبِّ الْوَلَدِ الْوَالِدَ، وَالْوَالِدَةُ تَفُوقُهُ فِي بَعْضِهَا، وَتَتَخَلَّفُ عَنْهُ فِي بَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَ الْوَالِدُونَ هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الْمُوَالَاةِ وَالْمُنَاصَرَةِ دُونَ الْوَالِدَاتِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمْ، تَبَعًا لِنَهْيهِ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ مُوَالَاتَهُمْ لَهُمْ مِنْ قَبِيلِ طَاعَتِهِمْ فِي الشِّرْكِ الَّذِي نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَنَصْرُ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ لِأَجْلِهِ شِرْكٌ، بَلِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّضَاءَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، فَكَيْفَ يَنْصُرُ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ بِمُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ وَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؟ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ حُبِّ آبَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ، بَلْ حَذَّرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهَادٍ مَا فِي سَبِيلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي. كَذَلِكَ نَهَاهُمْ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ عَنْ مُوَادَّةِ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ إِذَا كَانَتْ لِأَجْلِ الْمُحَادَّةِ، كَمَا يُفِيدُهُ تَرْتِيبُ النَّهْيِ عَلَى فِعْلِهَا، فَإِنَّ الْمَوَدَّةَ هِيَ الْمُعَامَلَةُ الْحَبِيَّةُ، وَالْمُحَادَّةُ شِدَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَاشْتِرَاكُ الْمُؤْمِنِ الْمُحِبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ الْمُحَادِّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْمَوَدَّةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى صِفَتَيْهِمَا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى مُوَالَاتِهِمْ بَلْ أَخَصُّ مِنْهَا.
(2) حُبُّ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ لَهُ جَمِيعُ تِلْكَ الْمَنَاشِئِ الْغَرِيزِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ، وَأَنْوَاعِ الشُّعُورِ وَالْعَوَاطِفِ النَّفْسِيَّةِ، وَبَعْضِ تِلْكَ الْحُقُوقِ الْعُرْفِيَّةِ وَالْآدَابِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا جَمِيعِهَا، وَلَكِنَّ حُبَّ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ أَحَرُّ وَأَقْوَى وَأَنْمَى وَأَبْقَى مِنْ عَكْسِهِ، وَهُوَ أَشَدُّ شُعُورًا بِمَعْنَى كَوْنِ وَلَدِهِ بِضْعَةً مِنْهُ، وَكَوْنِ وُجُودِهِ مُسْتَمَدًّا مِنْ وُجُودِهِ، وَيَشْعُرُ مَا لَا يَشْعُرُ مِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ نُسْخَةً ثَانِيَةً مِنْهُ يُرْجَى لَهَا مِنَ الْبَقَاءِ مَا لَا يُرْجَى لِلنُّسْخَةِ الْأُولَى، فَهُوَ يَحْرِصُ عَلَى بَقَائِهِ كَمَا يَحْرِصُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَشَدَّ، وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّيِّبَاتِ إِيثَارًا لَهُ بِهَا فِي حَاضِرِ أَمْرِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ، وَيُكَابِدُ الْأَهْوَالَ وَيَرْكَبُ الصِّعَابَ، وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِفُ الْحَرَامَ فِي سَبِيلِ السَّعْيِ وَالِادِّخَارِ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [6: 151] الْآيَةَ، أَنَّ عَاطِفَةَ الْبُنُوَّةِ وَنَعْرَتَهَا مِنْ أَقْوَى غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يُنَمِّيهَا فِي النَّفْسِ مِنْ قِيَامِ الْوَالِدِ بِشُئُونِ الْوَلَدِ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَمَا يُحْدِثُهُ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَاطِفِ فِي الْحَالِ، وَالذِّكْرَيَاتِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَكَوْنِهِ مَنَاطَ الْآمَالِ، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [18: 46] قَالُوا: الْمَعْنَى أنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي يَبْقَى ثَوَابُهَا لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَيْرٌ مِنْ زِينَةِ الْمَالِ فِيهَا ثَوَابًا، وَخَيْرٌ مِنَ الْبَنِينَ فِيهَا أَمَلًا، فَهُوَ نَشْرٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفِّ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ حُبِّ الْآبَاءِ لِلْبَنِينَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [3: 14] إِلَخْ.
(3) حُبُّ الْأُخُوَّةِ يَلِي فِي الرُّتْبَةِ حَبَّ الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ، وَالْأَخَوَانِ صِنْوَانِ فِي وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، فَالْأَخُ الصَّغِيرُ كَالْوَلَدِ، وَالْكَبِيرُ كَالْوَالِدِ، وَيَخْتَلِفَانِ عَنْهُمَا بِشُعُورِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَنْبَتِ وَطَبَقَةِ الْقَرَابَةِ. وَقَدْ يُمَارِي فِيهِ بَعْضُ الَّذِينَ أَفْسَدَتْ فِطْرَتَهُمْ نَزَعَاتُ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنَ التَّقَالِيدِ الْعَادِيَّةِ لَا مَنْشَأَ لَهُ مِنْ غَرَائِزِ النَّفْسِ، وَلَا مُقْتَضَيَاتِ الطَّبْعِ، بَلْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَدَاوَةَ الْأُخُوَّةِ أَعْرَقُ فِي الْغَرِيزَةِ مِنْ مَحَبَّتِهَا، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِمَا وَرَدَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ قَتْلِ أَحَدِ وَلَدَيْ آدَمَ لِأَخِيهِ فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ، وَعَهْدِ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ مِنْ تَأْثِيرِ التَّنَازُعِ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَمِنْ فِعْلَةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ بِهِ وَهُمْ مِنْ أَسْلَمِ النَّاسِ أَخْلَاقًا وَخَيْرِهِمْ وِرَاثَةً.
وَالْحَقُّ فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا الْوَحْيُ مِنْ قَتْلِ قَابِيلَ لِأَخِيهِ هَابِيلَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِي اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ مِنَ التَّنَازُعِ بَيْنَ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ عَاطِفَةٍ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ، وَالِامْتِيَازِ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي رَغَائِبِ النَّفْسِ وَمَنَافِعِهَا، وَمَا قَدْ يَلِدُ مِنَ الْحَسَدِ، وَمَا قَدْ يَتْبَعُ الْحَسَدَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. فَضَرَبَ اللهُ لَنَا مَثَلًا لِبَيَانِ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ؛ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ بَيَانَ كَوْنِ غَرِيزَةِ الدِّينِ بَلْ هِدَايَتِهِ هِيَ الْمُهَذِّبَةَ لِلْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِتَرْجِيحِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، فَكَانَ قَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ النَّزْعَةُ الثَّانِيَةُ، وَهَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْأَوْلَى بِتَرْجِيحِ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [5: 28 و29] وَالدَّلِيلُ عَلَى مَحَبَّةِ الْأُخُوَّةِ، وَوَشِيجَةِ الرَّحِمِ فِي نَفْسِ قَابِيلَ، وَتَنَازُعِهَا مَعَ حُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ عَلَى أَخِيهِ أَوْ مُسَاوَاتِهِ وَحَسَدِهِ لِتَقَبُّلِ قُرْبَانِهِ دُونَهُ قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [5: 30] فَإِنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ تَرْجِيحِ دَاعِيَةِ الشَّرِّ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْحَسَدِ الْعَارِضِ عَلَى عَاطِفَةِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ وَرَحْمَةِ الرَّحِمِ بِالتَّطْوِيعِ مِنْ أَبْلَغِ تَحْدِيدِ الْقُرْآنِ لِدَقَائِقِ الْحَقَائِقِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، فَإِنَّ مَعْنَى صِيغَةِ التَّفْعِيلِ التَّكْرَارُ وَالتَّدْرِيجُ فِي مُحَاوَلَةِ الشَّيْءِ كَتَرْوِيضِ الْفَرَسِ الْجَمُوحِ، وَتَذْلِيلِ الْبَعِيرِ الصَّعْبِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَابِيلَ كَانَ يَجِدُ مِنْ نَوَازِعِ الْفِطْرَةِ فِي نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ مَانِعًا يَصُدُّهَا عَمَّا زَيَّنَهُ لَهُ الْحَسَدُ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ، وَأَنَّهَا مَا زَالَتْ تَأْمُرُهُ وَيَعْصِيهَا حَتَّى حَمَلَتْهُ عَلَى طَاعَتِهَا بَعْدَ جَهْدٍ وَعَنَاءٍ.
وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْحَسَدِ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: كَبُرَ عَلَيْهِمْ إِقْبَالُ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ بِكُلِّ وَجْهِهِ وَكُلِّ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا الِابْنِ الصَّغِيرِ، الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَنْفَعَهُ أَوْ يَنْفَعَ الْأُسْرَةَ بِخِدْمَةٍ وَلَا حِمَايَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ آمَالِ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ عَلَى قُوَّتِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَبُ وَالْأُسْرَةُ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الْحَسَدُ أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُغَرِّبُوهُ؛ لِيَجْتَمِعَ الشَّمْلُ، وَيَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُوا بِذَلِكَ قَوْمًا صَالِحِينَ بِزَوَالِ سَبَبِ الشِّقَاقِ وَالْفَسَادِ فِيهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ التَّشَاوُرِ رَجَّحُوا تَغْرِيبَهُ وَإِبْعَادَهُ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَمَا أَشَارَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَلَوْلَا عَاطِفَةُ الرَّحِمِ، وَهِدَايَةُ الدِّينِ لَمَا رَضِيَ الْعَشَرَةُ بِرَأْيِ الْوَاحِدِ فِي تَرْكِ قَتْلِهِ. وَلِمَاذَا نَحْفَظُ هَذِهِ الْوَقَائِعَ الشَّاذَّةَ، وَنَنْسَى الْأَمْرَ الْغَالِبَ الْأَعَمَّ، وَهُوَ تَوَادُّ الْأُخُوَّةِ وَتَعَاوُنُهُمْ وَتَنَاصُرُهُمْ بِبَاعِثِ الْغَرِيزَةِ وَلَوَازِمِهَا؟! وَمِنْهُ مَا كَانَ مِنْ إِحْسَانِ يُوسُفَ إِلَى إِخْوَتِهِ، ثُمَّ عَفْوِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ مَعِيشَتِهِ مَعَهُمْ؟ بَعْدَ هَذَا أُذَكِّرُ الْقَارِئَ الَّذِي أَخَافُ عَلَيْهِ فَسَادَ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ الْمُغْرِيَةِ بِعَدَاوَةِ الْأُخُوَّةِ لِلْجَهْلِ بِالدِّينِ، وَالْحِرْمَانِ مِنْ هِدَايَتِهِ، بِمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ إِهْمَالِ تَعْلِيمِهِ وَتَرْبِيَتِهِ- أُذَكِّرُهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ لِلْعَالَمِ الْمَادِّيِّ إِنْكَارَهُ أَوِ الْمُكَابَرَةَ فِيهِ مِنْ مَنْشَأِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ فِي النَّفْسِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ التَّوَادِّ وَالتَّنَاصُرِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَدَوِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِ وَآدَابِهِمْ وَعَادَاتِهِمُ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ طِبَاعِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْعَطْفَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ مَا بَيْنَ أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ الْمَوْرُوثَةِ وَعَوَاطِفِهَا الْمُكْتَسَبَةِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَفِي شُئُونِ الْحَيَاةِ مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، وَفِي الْحُقُوقِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ، وَلِلْإِخْوَةِ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا لَيْسَ لِمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ، بَلْهَ مَنْ بَعُدَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ، فَالْأَخُ صِنْوُ أَخِيهِ، مَنْبَتُهُمَا وَاحِدٌ، وَدَمُهُمَا وَاحِدٌ، وَوِرَاثَتُهُمَا النَّفْسِيَّةُ وَالْجَسَدِيَّةُ تَتَسَلْسَلُ مِنْ أَرُومَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِيهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَشْعُرُ بِالِاعْتِزَازِ بِعِزَّةِ الْآخَرِ إِلَى أَنْ يُفْسِدَ فِطْرَتَهُ الْحَسَدُ، وَيَحْفَظَ مِنْ ذِكْرَيَاتِ الطُّفُولَةِ وَالصِّبَا مَا لَهُ سُلْطَانٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّفْسِ، وَتَأْثِيرٌ كَبيرٌ فِي آصِرَةِ الرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ، وَمَا زَالَ أَهْلُ الْوَسَطِ مِنْ بُيُوتِ النَّاسِ الَّذِينَ سَلِمَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَكَرُمَتْ أَخْلَاقُهُمْ، يُحِبُّونَ إِخْوَتَهُمْ كَحُبِّهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَيُوَقِّرُونَ كَبِيرَهُمْ تَوْقِيرَهُمْ لِأَبِيهِمْ، وَيَرْحَمُونَ صَغِيرَهُمْ رَحْمَتَهُمْ لِأَبْنَائِهِمْ، وَيَكْفُلُونَ مَنْ يَتْرُكُهُ وَالِدُهُ صَغِيرًا فَيَتَرَبَّى مَعَ أَوْلَادِهِمْ كَأَحَدِهِمْ، وَقَدْ تَكُونُ الْعِنَايَةُ بِهِ أَشَدَّ، وَمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا وَمَا قَبْلَهُ هَذِهِ الْإِطَالَةَ النِّسْبِيَّةَ إِلَّا لِيَكُونَ تَفْسِيرُ كِتَابِ اللهِ الَّذِي أُنْزِلَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ دَرْءِ مَفَاسِدِ الْفَلْسَفَةِ الْمَادِّيَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلْأَرْحَامِ، الْمُفْسِدَةِ لِلِاجْتِمَاعِ.
(4) حُبُّ الزَّوْجِيَّةِ ضَرْبٌ خَاصٌّ مِنْ شُعُورِ النَّفْسِ لَيْسَ لَهُ فِي أَنْوَاعِهَا ضُرَيْبٌ، فَهُوَ الَّذِي يَسْكُنُ بِهِ اضْطِرَابُ النَّفْسِ مِنْ ثَوْرَةِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي تُهَيِّجُهَا دَاعِيَةُ النَّسْلِ، وَغَرِيزَةُ بَقَاءِ النَّوْعِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ بِهِ بَشَرَانِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَمِّمًا لِوُجُودِ الْآخَرِ يُنْتِجَانِ بِاتِّحَادِهِمَا بَشَرًا مِثْلَهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [3: 14] إِلَى آخِرِهِ وَفِي مَقَالَاتِ (الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ) مِنَ الْمَنَارِ (الْمُجَلَّدُ الثَّامِنُ) وَإِنَّمَا قَدَّمَهُ هُنَالِكَ عَلَى حُبِّ الْبَنِينَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ عَلَى حُبِّ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ أَقْوَى الشَّهَوَاتِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَخَّرَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْحُبِّ الْمُعَارِضِ لِحُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَمَا يَخْشَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مُوَالَاةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْحَرْبِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَلَّمَا تَكُونُ زَوْجُ الرَّجُلِ مُعَارِضَةً لَهُ فِي دِينِهِ وَوِلَايَةِ مَنْ يَدِينُ اللهُ بِوِلَايَتِهِ، كَمَا يُعَارِضُهُ أَبُوهُ وَابْنُهُ وَأَخُوهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دُونَ امْرَأَتِهِ. وَرُوعِيَ التَّرْتِيبُ الطَّبِيعِيُّ فِي عَلَاقَةِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ بِالْمَرْءِ، وَدَرَجَاتِ لُصُوقِهَا بِهِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّرَقِّي فِي قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [80: 34- 36] وَهَذِهِ الْفُرُوقُ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَاخْتِلَافِهَا فِي الْمَقَامَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ هِيَ مِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَنِدُّ عَنْ سَلَائِقِ الْبَشَرِ، وَمَعَارِفِهِمْ فِي بَلَاغَةِ الْكَلَامِ.
(5) حُبُّ الْعَشِيرَةِ حُبُّ عَصَبِيَّةٍ وَتَعَاوُنٍ وَاعْتِزَازٍ، وَوِلَايَةٍ وَنَصْرٍ فِي الْقِتَالِ، وَيَكُونُ عَلَى أَشُدِّهِ فِي أَهْلِ الْبَدَاوَةِ، وَمَنْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَارَةِ، وَقَدْ أَضْعَفَ الْإِسْلَامُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُبِّ وَالْوِلَايَةِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ مِنَ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِتَحْرِيمِ الدَّعْوَةِ إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَالْقِتَالِ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، كَمَا أَضْعَفَتْهُ الْحَيَاةُ الْحَضَرِيَّةُ التَّامَّةُ الَّتِي تُوكَلُ فِيهَا حِمَايَةُ الْأَفْرَادِ إِلَى دَوْلَةِ الرَّجُلِ دُونَ عَشِيرَتِهِ وَقَبِيلِهِ، وَتُجْمَعُ الْعَشِيرَةُ عَلَى عَشِيرَاتٍ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ، وَبِهِ قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ.
(6) حُبُّ الْأَمْوَالِ الْمُقْتَرَفَةِ- أَيِ الْمُكْتَسَبَةِ- طَبِيعِيٌّ أَيْضًا، وَهُوَ أَقْوَى فِي النَّفْسِ مِنْ حُبِّ الْأَمْوَالِ الْمَوْرُوثَةِ؛ لِأَنَّ عَنَاءَ الْإِنْسَانِ فِي اقْتِرَافِهَا يَجْعَلُ لَهَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْقِيمَةِ وَالْمَنْزِلَةِ مَا لَيْسَ لِمَا جَاءَهُ عَفْوًا، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ النَّاسِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ حُبِّ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [3: 14] الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا.
(7) حُبُّ التِّجَارَةِ الَّتِي يُخْشَى كَسَادُهَا، يُرَادُ بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ عَرُوضُ التِّجَارَةِ الَّتِي يُخْشَى كَسَادُهَا فِي حَالَةِ الْحَرْبِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تُجَّارًا كَمَا وَرَدَ، وَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ شَيْءٌ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ يَخْشَى كَسَادَهَا فِي أَوْقَاتِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مُسْتَهْلِكِيهَا كَانُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ أَسْوَاقُهَا تُنْصَبُ فِي أَيَّامِ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَقَدْ مُنِعَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ بِمُقْتَضَى الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَنَاهِيكَ بِحُبِّ أَبِي سُفْيَانَ وَوَلَدِهِ لِلْمَالِ، وَوَلُوعِهِ بِالتِّجَارَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْلِيبِهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ لِأَجْلِ تِجَارَتِهِ، وَقَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الشَّامِتِينَ بِهَزِيمَةِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَتَأَلَّفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَثْرَةِ الْعَطَاءِ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ، كَمَا اسْتَمَالَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِقَوْلِهِ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(8) حُبُّ الْمَسَاكِنِ الْمَرْضِيَّةِ طَبِيعِيٌّ أَيْضًا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ مَسْكَنًا يَأْوِيهِ، أَوْ يَمْلِكُ قَصْرًا لَا يُرْضِيهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا فِيمَا يَظْهَرُ وَاللهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنَ الدُّورِ الْحَسَنَةِ الَّتِي كَانُوا يَرْضَوْنَهَا لِلْإِقَامَةِ وَالسُّكْنَى بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَرَافِقِ وَأَسْبَابِ الرَّاحَةِ، وَيَكُونُونَ فِي مُدَّةِ خُرُوجِهِمْ لِلْجِهَادِ مَحْرُومِينَ مِنْهَا- وَمَا كَانَ لِبَعْضٍ آخَرَ فِي مَكَّةَ يُعِدُّونَهَا لِلِاسْتِغْلَالِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ إِذْ يَظْهَرُ مِنْ طَبِيعَةِ الْأَحْوَالِ أَنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ، وَهَذَا النَّوْعُ يَكُونُ مُعَطَّلًا بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ وَهُوَ مَا بَلَغُوهُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.